هل أنت على وعي بأنّ كل يوم يمضي من عمرك يقرّبك إلى الموت أكثرفأكثر، أو يقرّب الموت إليك أكثر فأكثر، مثلما هو الأمر مع جميع الناس، أو ربّمايقرّبك أنت إليه أكثر من أي شخص آخر. وكما أخبر الله سبحانه وتعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةٌ المَوْتثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، (سورة العنكبوت، الآية 57). فكلّ من على وجه هذهالبسيطة، ومن سوف يعيش عليها في المستقبل سوف يواجهون الموت بدون استثناء. بيد أنهبالرّغم من هذه الحقيقة فإنّ الإنسان يرى نفسه لسبب من الأسباب، بمنأى عن هذاالمصير. لو أمعنا التفكير في طفل يأتي إلى العالم ليأخذ أول نفس له فيه،ورجل على قيد لحظات من الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، فلا الذي ولد له دخل في ولادتهولا الذي يَموت كذلك اختار هذا المصير. فالأمر كله لله وبيده سبحانه، فهو المالكالمتصرف وبيده القوة في نفخ الروح فيبعث فيها الحياة أو يقبضها فتنتهي بالموت. وقد صور الله تعالى حال بعض بني البشر تجاه الموت حين قال تعالى فيسورة الجمعة في الآية 8: (قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ منهفَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِفَيُنَبِّؤُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). يتجنب أغلب الناس التفكير في الموت, وخلال أحداث اليومالمتلاحقة, يغرَقُ الشّخص في دائرة متشعّبة من المواضيع المختلفة: فيأيّ جامعة سيدرس, وفي أيّ شركة سيعمل, وما لون اللّباس الذي سيرتديه في الصباحالتالي, وما الّذي سيأكله؟ هذه هي أهم المشاغل التي تملأ أذهاننا. فالإنسان يعتقدأن الحياة لا تعدو أن تكون هذه الأشياء. لقد اُعتبر الحديث عن الموت أمرًا ثانويًا، وأيّ محاولة للحديث عنالموت كثيرًا ما تتعرض للمقاطعة من قبل الأشخاص الذين لا ترتاح أنفسهم ولا تطمئنلمثل هذا الموضوع, فعادة ما يعتقد الإنسان أنه لن يموت إلاّ بعد أن يتجاوز الخمسينأو الستين من العمر، أما الشباب فلا يريدون أن يخوضوا في مثل هذه المواضيع "المنغّصة". والحال أن أحدًا لا يضمن لنفسه أن يعيش ولو ثانية. فكل يوم تطالعناالصّحف والقنوات التلفزيونية بشتّى الأخبار عن الموت. وكل إنسان عادة ما يكونشاهدًا على أقرباء له ماتوا، لكنه لم يفكر أن الآخرين سوف يكونون يومًا ما شهودًا علىموته هو نفسه. ولكن عندما يأتي الموت نجد أن كل "حقائق" الحياة تتلاشى فجأة, لنيترك الموت منك أي أثر. فكر في حالك الآن؛ عيناك اللتان تُفتحان وتُغمضان، حركاتجسمك، قدرتك على الكلام، قدرتك على الضحك، بمعنى فكر في جميع وظائفك الحيوية. ثمفكر مرة أخرى في حالك وقد خرجت روحك وأصبح جسمك جثة هامدة، استحضر هذا أمامعينيك. سوف تصبح جثة هامدة لا تعرف ماذا يحيط بك وما يدور حولك، هكذا سوفترقد. سوف يُحمل جسمك من قبل أناس آخرين، وسوف يعتبرونك مجرد "قطعة لحم". وعندإعداد التابوت الذي سوف تحمل فيه إلى المقبرة يتولى أحد الأشخاص تغسيلك، ثم يلفّونكفي قماش أبيض، ثم توضع في تابوت من الخشب. وعندما تنتهي المراسم في الجامع تُحملويُذهب بك إلى المقبرة، وبعد ذلك توضع على قبرك قطعة من الحجر كتب عليها تاريخميلادك وتاريخ وفاتك. وسوف يلقى بك مع الكفن داخل الحفرة التي أُعدت لك، وتوضع فوقكقطعة من الخشب ثم يُهال عليك التراب. وبعد أن يواروك بالتراب جيدًا، تنتهي مراسمالدفن على هذا النحو. في الأيام الأولى تكون الزيارات إلى قبرك كثيرة، ثم تتناقص لتصبحمرة كل عام، وبعد ذلك تُنسى ولا يَحتفل بك أحدٌ. وبالإضافة إلى كلّ هذا سوف لن يكونلديك علم حتى بهذه الزّيارات. غرفتك التي مكثت فيها لسنوات، وسرير نومك الذي نمت فيه سوفيفقدانك. وبعد أن تغادر جنازتك المنزل بمدة سوف توزع أشياؤك الخاصة وتعطى إلى من همفي حاجة إليها. وسوف يذهب أهلك إلى إدارة النفوس ويطلبون شطب اسمك من هذه الدنيا.ربما يَذكرك بعض النّاس في الفترات الأولى بعد موتك، وربما كان هناك مِنْ خلفك منيبكيك. بيد أنّ الزمن كفيل بأن يُذهب ذِكرك من بين الناس شيئًا فشيئًا. وبعد عقودقليلة من الزّمن لن يبقى في هذه الدّنيا التي عشت فيها "زمنا طويلا" من يتَذكرك.ومع ذلك، وحتى أقاربك ومعارفك الذين تركتهم خلفك بعد موتك لا يفيد شيئًا إذا تذكروكأو نسوك لأنهم هم أيضًا سوف ينْفضّون من هذه الحياة ويغادرونها واحدًا بعد آخر. وفي الوقت الذي تتالى فيه الأحداث على الأرض يبدأ جسمك الموجود تحتالتراب في عملية تحلل سريعة. سوف تهبّ الحشرات والديدان لتنهش جسمك، وسوف ينتفخبطنك بسبب الغازات التي تملؤه، وهذا الانتفاخ سوف يسري في كل جزء من بدنك، ويصبحجسمك على هيئة لا يَعرفها أحد. وعلى إثر ذلك يحدث ضغط من قبل هذه الغازات علىالحجاب الحاجز فتبدأ رغوة ممزوجة بالدّماء تخرج من فمك وأنفك. ومع تهرؤ الجسميتناثر الشعر وتنقلع الأظافر من أماكنها وتتمزق راحة اليد وظهرها.بالإضافة إلى هذه التغيرات الخارجية، سوف يدبّ الفساد كذلك فيالأعضاء الداخلية. وفي الواقع فإن الموقف المخيف سوف يحدث هنا، فالغازات المتجمعةفي أنحاء البطن سوف تفجر أضعف نقطة فيها، ثم تنتشر من الجسم روائح كريهة لا يمكنأبدًا تحمّلها. وفي هذه المرحلة تبدأ العضلات في الانفصال عن أماكنها بدئًا منالرأس، ثم يتحلل الجلد والأجزاء الأخرى اللينة منه، ثم يبدأ الهيكل العظمي فيالبروز. وبعد ذلك، يتحلل الدماغ تمامًا ويتحول شكله إلى شكل طين. أما العظام فينفصلبعضها عن بعض، ثم يبدأ الهيكل العظمي في الانفراط ... وتتواصل هذه العملية على هذاالنحو إلى أن يتحول جسمك إلى خليط من التراب والعظام. نعم، لن يكون من الممكن العودة ولو لثانية واحدة إلى الحياة التيكانت قبل الموت؛ التقاء مع الأسرة، ولقاء مع الأصدقاء ولهوٍ معهم، ولن يبقى أمل فيالترقّي إلى أعلى المناصب. نعم، إن الجسد سوف يتناثر في القبرِ، ويُصبح عبارةً عنهيكل عظمي. وباختصار، فالجسم الذي يمنحك هويتك، وبه تقول "أنا" سوف ينتهيبنهاية كريهة جدًّا. وأنت، باعتبارك روحا في حقيقتك سوف تكون قد غادرت جسدك منذزمن. أما الجسم الذي خلفته وراءك فإنه سوف ينتهي إلى مصير مُرعبٍ للغاية.حسنا، ما هو السبب في كل هذا؟ لو شاء الله تعالى ما أحال جسم الإنسان بعد الموت إلى هذه الحالة،بيد أن لهذا الأمر معنى كبيرًا.أولا، يتعين على الإنسان أن يفهم أن حقيقته ليست عبارة عن بدن، وأنهذا البدن لباسٌ أُلبسه لوقت محدّد، وعليه أن يفهم ذلك من هذه النهاية المُفزعة.وعليه كذلك أن يَشعر أنّ وراء هذا الجسم وجود آخر.ثانيا، على الإنسان أن ينتبه إلى فناء بدنه، وعليه أن يفكر فيالأشياء التي يتمسك بها في هذه الدنيا الفانية وكأنه سيعيش فيها أبد الدهر، وعليهأن يتأمل في عاقبة هذا البدن الذي يدفعه لكي يَحني قامَتَه من أجل تلبية جميعرغباته. هذا الجسم، لابد وأن يتمزّق يومًا تحت التّراب، سوف يفسد ويصبح عبارة عنهيكل عظمي. قد لا يكون ذلك اليوم بعيدًا، ربما يكون على بعد قدم..لكن بالرغم من كل هذه الحقائق فإن في داخل الإنسان ميلٌ إلى ألايفكر في الأشياء الكريهة التي تنفر منها نفسه، هناك رغبة في تجاهل مثل هذه الأمورواعتبارها غير موجودة. وهذا ما يتجلى جيدًا، وبشكل خاص عندما يتعلق الموضوع بالموتِ.ومثلما ذكرنا، فالموت لا يذكره الناس إلا عند فقدان أحد الاقارب أو في ذكرى موتأحدِِهم. فالجميع تقريبًا، يرون الموت بعيدًا عنهم. فهل الذين يموتون وهم يسيرون فيالطرقات أو ينامون على فرشهم يختلفون عنه في شيء؟ أم لأنه "مازال شابًا"، وسوف يعيش"طويلا"؟ ولكن كم من الناس تعرضوا لحوادث وهم ذاهبون إلى مدارسهم أو كانوا يسرعونمن أجل المشاركة في اجتماع مهم فهلكوا، وكم من الناس تلقّفهم مرض لم يكن يخطر علىبالهم فماتوا في وقت لم يكن في حسبانهم على الإطلاق، وهؤلاء جميعًا قبل موتهم ربّماكانوا أيضًا يرون أنّ الموت بعيدٌ عنهم. فبينما كانوا يعيشون بين الناس، إذ بالصّحففي اليوم التالي تذيع خبر وفاتهم فيَبهتُ الناس لأن هذا الأمر لم يكن يخطر ببالهم.ومن الغريب أنكم أنتم أيضًا قد لا تضعون احتمال موتكم بعد تقرأواهذه الأسطر بمدة قصيرة؛ فالأمور التي يَجب أن تُعمل والأعمال التي ينبغي أن تَتم تجعل الموتَ بالنّسبة إليكم أمرًا سابقًا لأوانه ولم يحنْ موعدُه بعد. والواقع أن كلهذا هُروب من الحقيقة، وقد أخبرنا الله تعالى أنه لنْ يجديَ صاحبه شيئً:ا (قُلْلَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَو القَتْلِ وَإِذًالاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (سورة الأحزاب: 16).على الإنسان أن يدرك أنه جاء إلى هذه الدنيا "عاريًا"، وسوف يخرجمنها "عاريًا". ولكنه بعد أن يولد بمدة قصيرة يبدأ في التمسك بالنعم التي تُمنح له-لسدّ حاجياته- تمسكًا مبالغًا فيه حتى يصبح الحصول على هذه النعم أكبر هدف في حياته.والحال أنّه لا أحد يمكن أن يحمل معه بعد موته لا ملكه ولا ماله الذي كان يملكه.كلّ ما في الأمر أنه سوف يُلف في خرقة بيضاء من بضعة أمتار ويُوارى فيها التراب. ويأتي الإنسان إلى هذه الدنيا "عاريًا" ويخرج منها كما دخلها"عاريًا"، ولن يرافقه إلى الآخرة سوى إيمانه بالله تعالى أو إنكاره له.